07/12/2023 - 17:00

بُنّي ووايتْ | قصّة

بُنّي ووايتْ | قصّة

جوناثان كنويلس

 

"سينتهي اليوم كلّ شيء، وسيُرْفَع علم دولة إسرائيل فوق بوّابة مستشفى الشفاء".

لم يحدث أن تواصلتُ معها أو تواصلتْ معي بعد وداعنا في عام 2021، غير أنّي صحوتُ من نومي المتقطّع على هذه الرسالة قبل أيّام، ليلة العاشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 2023.

وينْدي، كان اسمها وينْدي، التحقتْ مطلع العام الدراسيّ بالعمل في المدرسة الّتي كنت فاعلًا ضمن فريق الدعم والإثراء فيها في عام 2020.

- مرحبًا، أنا وينْدي، شقراء أمريكيّة يهوديّة من أوزارك! قالت بلكنة أمريكيّة واندفاع.

كانت تسير باتّجاهي حاملة ملفّات وقرطاسيّة بين يديها. أخذتُ بضع ثوانٍ لأجيبها:

- مرحبًا! بُنّيّ، فلسطينيّ، مسلم من جنين، السيلة الحارثيّة، من قرية أثريّة اسمها تْعِنِّك، تعنخام.

لم أقدّم نفسي لأحد قبل هذه الواقعة بالطريقة الّتي قدّمت بها نفسي لوينْدي. غالبًا ما كنت أقول أنّني فلسطينيّ أردنيّ أو أردنيّ فلسطينيّ، وأكتفي بذلك، ولكنّني شعرت بأنّه توجّب عليّ تقديم نفسي بطريقة ملائمة للطريقة الّتي انتهجتها الفتاة.

سألتني بارتباك عن مكتبها، فأفسحتُ لها مشيرًا إلى حيث يمكنها الجلوس. كانت ظفيرتها غير المهذّبة مجموعة بمطّاط أسود، ترتدي قميصًا أبيض يشفّ عمّا تحته، وتطوي أكمامه حتّى المرفقين، وبنطالًا أزرق فضفاضًا سمح لها بأن تجلس متربّعة فوق كرسيّ المكتب، وتستدير نحوي.

أخذتْ شهيقًا من الّذي يسبق الكلام ولكنّها أجّلتْه. وانغمستُ أنا في العمل المكتبيّ فلم أنتبه لها وهي تغادر الغرفة. وقفتُ مطقطقًا عظامي بعد جلسة العمل، ثمّ اتّجهتُ وفي يدي منديل صوب سلّة المهملات بالقرب من مكتبها، فرأيتُ عن غير قصد ميدالية المفاتيح، كانت ميدالية يتدلّى منها أربعة مفاتيح، واسم زوجها، وخارطة فلسطين.

تمسمرتُ في مكاني للحظات، ثمّ وجدتُ نفسي أبلع ريقي منبهرًا ببداية فيلم أحبّ أن أتابعه عن شابّ بُنّيّ، فلسطينيّ من جنين، يلتقي امرأة شقراء يهوديّة أمريكيّة (Blonde American Jew woman) ضمن ظروف التقاء رتّبها  قدر لم تسعَ إليه الفتاة ولم أسعَ إليه، ولكنّه لسبب ما قد حدث.

"لا تنتهي حرب الشوارع بدخول الدبّابات إلى المدن، بل تبدأ بها".

أجبتُ بهذه الجملة على رسالتها، وقمتُ من فراشي لأتابع الأخبار.

مرّ شهر وأيّام ثلاثة على معركة «طوفان الأقصى»، قوّات الاحتلال تبحث عن أيّ مظهر من مظاهر النصر لتشاركه مع مستوطنيها فلا تستطيع، لم يسقط قياديّ بارز واحد من المقاومة عن جواده، ولم يحرّروا أسيرًا ممّن أُسِر لغايات التبادل الّتي تسعى إليها المقاومة، ومُنِي جيش الاستعمار الإسرائيليّ رغم كلّ المجازر الّتي تُبَثّ على الهواء مباشرة بخسائر وصفها متحدّثوه الرسميّون بالفظيعة، رغم الجسر الجوّيّ الّذي سيّرته لإمداد إسرائيل بالأسلحة والعتاد الحربيّ.

في تلك الليلة، وجدتُ رسالة من امرأة، كانت زميلة لي في العمل، تدّعي أنّ جيش دينها - لا دولتها، وسأتكلّم عن ذلك لاحقًا - يحقّق نجاحات على الأرض، وهي الّتي لم تكلّمني ألبتّة مذ تودّعنا قبل أكثر من عامين.

لم تغادر رسالتها رأسي طيلة النهار. كنت أمسك هاتفي وأهمّ بسبّها، ثمّ أتريّث مذكّرًا نفسي بالحكمة والهدوء، أُلهي نفسي بالعمل، ثمّ أفكّر في ردّ ثانٍ على رسالتها، ولكنّني أؤجّله حتّى أحظى بوقت لأصوغ فكرتي. ثمّ أقرّر ألّا أستقبل رسائلها وأحظرها من الواتساب... وبينما أنا على هذه الحال أضاء هاتفي، وارتجّ، برسالة جديدة من وينْدي.

- كم الساعة الآن في الصين؟

- التاسعة صباحًا بتوقيت غزّة.

- أتمنّى أن يكونوا قد حظوا بنوم هانئ لساعة أو ساعتين.

- الأطفال الّذين قتلهم الجيش سينامون لفترة أطول من ذلك كثيرًا!

- سيذهبون إلى الجنّة يا عبد الله.

الحقيقة أنّني لم أتمالك نفسي. لعنتُها ولعنتُ دين آبائها وأجدادها. وكتبتُ كلّ ما رغبتُ في قوله مذ بدأتُ بنقاشها الّذي استمرّ لأكثر من عام بشكل شبه يوميّ.

ولكنّني لم أرسله.

 

***

 

في اليوم التالي للقائنا الأوّل، التقيتُ وينْدي في غرفة الاجتماعات، حيث كنّا نحضّر خلال الأسبوع الأوّل دورات وورشات عمل تحضيريّة للعام الدراسيّ.

سبقتني إلى هناك، شاهدتها من الخلف، ثمّة مجموعة من أقلام الرصاص مغروسة في ربطة شعرها، وفخذاها يظهران مثل جناحين عاريين عن يمين ويسار، ظهر الكرسيّ الّذي كانت تتربّع عليه مغمضة العينين. خلعتُ حقيبة ظهري، وأنزلتُها فوق كرسيّ في الصفّ الّذي تجلس فيه، وهممتُ بالقعود فسمعتُها تقول: مرحبًا براون!

لم يكن في القاعة سوانا، ومع ذلك دوّرتُ بصري في المكان، ثمّ انتبهتُ إلى أنّها تعنيني.

- أوه! مرحبًا وايت!

ستصير هذه كنيتها، وستظلّ هذه كنيتي حتّى وداعنا.

-أوَصلنا مبكّرين أم أنّنا في المكان الخطأ؟ قالت وهي تُنزل ساقيها إلى الأرض.

نظرتُ إلى ساعتي: لدينا عشر دقائق لنكتشف ذلك.

"عشر دقائق وقت كافٍ ليحدث الكثير". قالت وهي تشدّ جوربيها فوق فخذيها. ثمّ عدّلتْ بحركة سريعة قميصها الفضفاض، الّذي حمل اسم فريق بيسبول كنديّ معروف.

- حدّثَني آندي عنك. تقصد زوجها.

- وحدّثَني عنكِ نهاية العام الدراسيّ.

- لم يذكر أنّك فلسطينيّ. قال إنّك من الأردنّ!

- "ما قاله صحيح". فضيّقتْ عينيها: كيف ذلك؟

- قصّة طويلة، عشر دقائق غير كافية للإحاطة بها.

- لعلّها كافية لنأخذ كأس قهوة من البوفيه. قالت بعد تفكير، فذهبنا إلى ركن الطعام في القاعة معًا...

- وايت أم براون؟ قلتُ وأنا أشير إلى مكعّبات السكّر في سلّة قرب حافظ المياه الساخنة، فابتسمتْ.

- في هذه الحالة أبيض! فوضعتُ قطعة بنّيّة في كأسها.

- لديّ فضول تجاه قصّتك! وحرّكتِ السكّر في الماء ليذوب.

- لا شيء يهمّ. فلسطينيّ مهجَّر من فلسطين.

- هل تعني إسرائيل؟ قالت، فابتسمتُ!

ثمّة حوارات تشعُر أنّ صاحبها فكّر فيها قبل أن يخوضها، مثل حركة متوقّعة في لعبة شطرنج.

- هل تصحّحين الطريقة الّتي أنطق بها اسم بلادي؟ فبلعتْ ريقها!

كان جوابي صارمًا، وقد بدا في صوتي شيء من الحدّة. وهذا سبب كافٍ ليحتدم النقاش، غير أنّ دخول أحد زملائنا إلى القاعة منع ذلك الاحتدام.

 

***

 

كنت أستغرب هوس أبي بالأخبار حين كنت طفلًا، كان يعود إلى البيت بعد المغيب ليتابع نشرات الأخبار الّتي كان يتابعها على قناتين أرضيّتين، ثمّ أخذ يتابع خمس قنوات أخبار حين بدأتْ ثورة القنوات الفضائيّة والستالايت. وكنت أرى في عينيه أملًا لم أكن معنيًّا به، كنّا نعيش في الأردنّ، نحمل جنسيّتها وننتمي إليها ونحبّها، وشخصيًّا لم تكن تربطني في فلسطين أيّ روابط باستثناء ذكريات سعيدة لزيارتين إلى بيت جدّي. أمّا حياتي فقد كانت مثاليّة؛ إذ كنت ألعب طيلة الوقت ولديّ أصدقاء، ولا عوائق كالّتي يعاني منها الفلسطينيّون في البلاد.

ظلّ هذا الحال حتّى بدأتْ الانتفاضة الثانية، وشاهدتُ استشهاد محمّد الدرّة! منذ هذه اللحظة تغيّر كلّ شيء.

 


 

عبد الله الزيود

 

 

 

كاتب فلسطينيّ أردنيّ يعمل أخصّائيًّا تربويًّا في دبيّ، حاصل على جوائز عربيّة ومحلّيّة منها «جائزة ملتقى الإعلاميّين الشباب العرب» (2009)، و«جائزة مؤسّسة محمود درويش» (2015).

 

 

التعليقات